الاستغفار الذي يمحو الله به الكبائر
لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار
الاستغفار
الاستغفار شأنه كبير ونفعه عظيم، على العكس والنقيض من الإصرار ذي الضرر البليغ، والخطر الجسيم، فقد أفلح المستغفرون، وخاب وخسر المُصرّون على الصغائر، المداومون على الكبائر- لهذا أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة من اصرار"1.
قال تعالى على لسان نوح عليه السلام عندما كذّبه قومه زمناً طويلاً، وحبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة كما قال مقاتل2 فهلكت مواشيهم، وزروعهم، فصاروا إليه واستغاثوا به: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا"3.
قال قتادة: (عَلِمَ نبي الله-نوح- صلى الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن طاعة الله درك الدنيا والآخرة)4.
قال القرطبي رحمه الله: (في هذه الآية والتي في "هود"5 دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار، قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأُمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح6 السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا"، وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد، فحمد الله و أثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: "مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ"، وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلاَّ لمثلنا؟، اللهم اغفر لنا وأرحمنا، واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا.
وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا".
حقيقة الاستغفار الذي يمحو الله به الكبائر
مشكلتنا نحن اليوم أن استغفارنا يحتاج إلى استغفار، ولسان حالنا ما قاله أحدهم:
استغفر الله مـن استغفر الله مِن كلمة قلتها خَالَفَت معناها
الاستغفار الذي يُثمر، ينتج، ويتنزل به الرزق، والمطر، والنصر، هو الذي يَصْدُر من القلوب الصافية والنفوس الزكية، الذي يوافق القلب فيه اللسان، ويصحبه ندم وعزم على عدم العدوة إلى الذنوب والآثام.
فالاستغفار الحق هو: استغفار اللسان المقرون باستغفار القلب، والمصحوب بالندم على ما مضى، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب حتى يعود اللين إلى الضرب وهو الذي لا تبقى معه كبيرة أبداً بل يمحها ويذهب بها بالكلية، فالتوبة تَجُب ما قبلها.
وعلى العكس والنقيض، فإن الإصرار والاستخفاف بالصغيرة تصيرها كبيرة.
والمراد أن التوبة الصحيحة تمحو أثر الخطيئة وإن كانت كبيرة حتى كأنها لم تكن فيلتحق بمن لم يرتكبها، والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلاً.
"ولا صغيرة مع إصرار"، فإنها بالمواظبة تعظم، فتصير كبيرة. فكبيرة واحدة تتصرم ولا يتبعها مثلها للعفو منها، أرجي من صغيرة يُواظب عليها ألا ترى أنه لو وقعت قطرات ماء على حجر متوالية أثرت فيه، وإن صُبَّ كثير منه دفعة واحدة لم يؤثر).
ما حقيقة الإصرار الذي يجعل الصغيرة كبيرة؟
بعد أن عرفنا حقيقة الاستغفار الذي لا تبقى معه كبيرة البتة، يتحتم علينا أن نتعرف على حقيقة الإصرار الذي يُصيّر الصغائر كبائر، ويغرر بكثير من الناس. فحاجة المسلمين اليوم لمعرفة حقيقة هذا الإصرار وخطورته أهم من معرفتهم لحقيقة الاستغفار،
فقال بعضهم: هو أن يتكرر الذنب منه، سواء كان بعزم على العود أم لا.
وقال بعضهم: إن تكرر من غير عزم لم يكن إصراراً، بأن يفعل الذنب أول مرة وهو لا يخطر له معاودته لداعية متجددة، فيفعله كذلك مِراراً، فهذا ليس اصراراً.
وتارة يفعل الذنب وهو عازم على معاودته، فيعاوده بناء على ذلك العزم السابق، فهذا هو الإصرار الناقل للصغيرة لدرجة الكبيرة، ولذلك قال الله تعالى: "وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ".
ويقال: فلان مُصِر على العداوة، أي مصمم بقلبه عليها وعلى مصاحبتها ومداومتها، ولا يفهم في عُرف الاستعمال من الإصرار إلاَّ العزم والتصميم على الشئ مواصلاً عزم النقل والتغيير، فوجب أن يكون ذلك معناه لغة وشرعاً.
فالتوبة النصوح التي لا تكون معها كبيرة، دعك عن الصغيرة، هي التوبة التي يتبعها ندم وعزم على عدم العود وإكثار من فعال الخير المكفرة لما سبق من صاحبها.
خِصال التائب قد ذكرها الله في آخر سورة براءة فقـال: "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ"8.
فلابد للتائب من العبادة والاشتغال بالعمل للآخرة، وإلاَّ فالنفس همامة متحركة، إن لم يُشغلها بالحق، وإلاَّ شغلته بالباطل، فلابد للتائب أن يبدل تلك الأوقات التي مرت له في المعاصي، بأوقات الطاعات، وأن يتدارك ما فرط فيها، وأن يبدل تلك الخطوات بخطوات إلى الخير، ويحفظ لحظاته وخطواته، ولفظاته وخطراته.
ثم قال الله تعالى: "الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ"، فهذه خصال التائب، كما قال تعالى: "التَّائِبُونَ"، فكأنَّ قائلاً يقول: من هم؟، قيل: هم العابدون السائحون إلى آخر الآية، وإلاَّ فكل تائب لم يتلبس بعد توبته بما يقر به من تاب إليه فهو في بعد وإدبار، لا في قرب و إقبال، كمن يفعل من اغتر بالله من المعاصي المحظورات، ويدع الطاعات، فإن ترك الطاعات، وفعل المعاصي أشد وأعظم من ارتكاب المحرمات بالشهوة النفسية، فالتائب هو من اتقى المحذورات، وفعل المأمورات، وصبر على المقدورات، والله سبحانه وتعالى هو المعين الموفق، وهو عليم بذات الصدور)9.
المعاصي والذنوب يريد الكفر وهي تخذل صاحبها عند الموت فيجتمع عليه خُذلان معاصيه والشيطان، ومن ثم الوقوع في سوء الخاتمة، أعاذنا الله وإياكم من سوء الخاتمة.
سوء الخاتمة-أعاذنا الله منها- لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله، وأعماله، إنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً، وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائر، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة
(وربما تعلق بذنب ذنوب كثيرة هي أعظم منه، مثل: الاصرار عليه والاغتباط به، وتسويف التوبة بعده، ووجدان حلاوة الظفر بمثله، أو وجدان الحزن والكراهة على فوته، والسرور بعمله، أو حمل غيره عليه، أو انفاق مال الله سبحانه فيه، وهو كفر النعمة به، وقد قيل: من انفق درهماً في حرام فهو مسرف.
ومن ذلك أن يستصغر الذنب ويحتقره، فيكون أعظم من اجتراحه، أو يتهاون بستر الله تعالى عليه، ويستخف بحُلْمِ الله تعالى عنه، فيكون ذلك من الاغترار والأمن، أو يجهل نعمة الله عليه في ستره، وإظهار ضده.
فإذا اتبع العبد الذنب بالذنب، ولم يجعل بين الذنبين توبة، خاف عليه الهلكة، لأنَّ هذا حال المصر، ولأنَّه قد شرد من مولاه بترك رجوعه إليه، ودوام مقامه مع النفس على هواه، وهذا مقام المقت في البعد
فالبدار البدار بالتوبة النصوح، والمسابقة المسابقة بأعمال الخير، والحذر الحذر من التسويف، فالموت آت وكل آتٍ قريب، بل الدنيا كلها قريب.
اللهم اختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، يا حنان يا منان، يا بديع السموات والأرض.
وصلي الله وسلم على الناصح الأمين والرسول الكريم وعلى آله وأصحابه والتابعين وعنا معهم يا رحمن يا رحيم.